تشير دراسة صادرة عن مركز الجزيرة للدراسات إلى أن سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، لم تكن حدثًا عابرًا، بل نتيجة مباشرة لتحولات استراتيجية وعسكرية عميقة في المشهد السوداني.


أولًا: تركيز الجيش على المراكز الحيوية

بعد نجاح القوات المسلحة السودانية في تحرير الخرطوم من قبضة الدعم السريع، ركّزت الحكومة العسكرية جهودها على حماية ثلاث مدن رئيسية تُعدّ بمثابة أعمدة الدولة:

  1. الخرطوم – رمز السيادة السياسية.
  2. بورتسودان – المنفذ التجاري الأهم الذي تمرّ عبره نحو 90% من تجارة السودان الخارجية.
  3. القضارف – السلة الغذائية للبلاد.

هذا التركيز جعل الحكومة تُخصّص معظم قواتها العسكرية لهذه المدن، وأنشأت قواعد جوية جديدة في بورتسودان لحمايتها، مما ترك إقليم دارفور مكشوفًا وضعيف الدفاع، فاستغلّت قوات الدعم السريع تلك الثغرة لتكثيف عملياتها غربًا.


ثانيًا: دارفور.. القاعدة التقليدية لحميدتي

تُعدّ مدينة الفاشر القاعدة التاريخية لقوات الدعم السريع، إذ ينحدر قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) من إقليم دارفور ويستند إلى حاضنة قبلية واسعة في المنطقة.
إضافة إلى ذلك، تعتمد قواته على خطوط إمداد تمتد نحو الجنوب الليبي عبر المناطق التي يسيطر عليها اللواء المتقاعد خليفة حفتر، ما يتيح له سهولة نقل الذخائر والدعم اللوجستي.

كما تستفيد قوات الدعم السريع من عائدات مناجم ذهب جبل عامر لتمويل عملياتها وتطوير ترسانتها العسكرية، خاصة عبر شراء طائرات مسيّرة استخدمتها لإحكام الحصار على الفاشر وإنهاك القوات السودانية فيها.


ثالثًا: “حكومة دارفور”.. مشروع موازٍ للدولة

تُشير الدراسة إلى أن حميدتي أعلن في أبريل 2025 عن تشكيل ما أسماه “حكومة السلام والوحدة”، وهي سلطة موازية تسعى لإدارة أربع ولايات في دارفور وغرب كردفان، بل وتخطط إلى طباعة عملة محلية وإصدار جوازات سفر وسجل مدني خاص بها.

ورغم غياب الاعتراف الدولي بهذه الحكومة، إلا أن سيطرة الدعم السريع على ربع مساحة السودان تجعلها سلطة أمر واقع يمكن أن تُجبر بعض الدول على التعامل معها لاحقًا.


رابعًا: التغيير الديموغرافي والانتهاكات الحقوقية

تُظهر تقارير منظمات حقوقية مثل هيومن رايتس ووتش ومختبر ييل للأبحاث الإنسانية أن قوات حميدتي نفّذت حملات تطهير عرقي وإعدامات جماعية ضد مجموعات إثنية وقبلية في الفاشر، من بينها الفور والزغاوة والمساليت، بهدف إعادة تشكيل التركيبة السكانية بما يخدم مصالحها القبلية والسياسية.


خامسًا: حسابات جديدة في ميزان القوة

ترى الدراسة أن السيطرة على الفاشر منحت حميدتي ميزة استراتيجية كبرى، لكنها في الوقت نفسه أجبرت الجيش السوداني على إعادة ترتيب أولوياته، لأن استمرار سيطرة الدعم السريع على الإقليم يُحوّله من مكسب عسكري إلى نفوذ سياسي ينافس الحكومة على تمثيل السودان خارجيًا.


سادسًا: السيناريوهات المستقبلية

الدراسة تضع ثلاثة سيناريوهات محتملة لمسار الصراع:

  1. احتفاظ الجيش بكردفان:
    • هو السيناريو الأرجح، لأن الدعم السريع لن يستطيع فرض حصار طويل بسبب ضعف الإمدادات وتعرّضه للقصف الجوي.
    • نجاح الجيش في الحفاظ على كردفان سيُضعف موقف حميدتي ويفتح الطريق لاستعادة الفاشر تدريجيًا.
  2. سيطرة حميدتي على كردفان:
    • احتمال ضعيف، لأن العملية مكلفة بشريًا وماديًا، وقد تؤدي إلى خسارة الفاشر نفسها.
    • كما أن الجيش سيعتبر فقدان كردفان تهديدًا وجوديًا لمفاصل الدولة وسيرد بقوة.
  3. استرداد الجيش لإقليم دارفور قبل معركة كردفان:
    • أضعف السيناريوهات بسبب صعوبة الإمدادات والظروف اللوجستية.
    • الجيش لا يملك قوات كافية لشنّ هجوم واسع في دارفور، رغم أن الدفاع أسهل من الهجوم.

الخلاصة

إن سيطرة قوات الدعم السريع على الفاشر ليست مجرد انتصار ميداني، بل تحوّل استراتيجي في ميزان الصراع بالسودان، قد يُفضي إلى تقسيم فعلي للبلاد بين سلطتين: حكومة مركزية في الشرق والجيش، وسلطة موازية في الغرب بقيادة حميدتي.
ويبقى مستقبل السودان مرهونًا بمدى قدرة الأطراف على تجنّب هذا المسار والانخراط في تسوية سياسية توقف الانزلاق الكامل نحو التفكك.

المصدر: مركز الجزيرة للدراسات – نوفمبر 2025
aljazeera.net
المصدر التحليلي: مركز الجزيرة للدراسات – “أسباب سيطرة الدعم السريع على الفاشر وتحولات المشهد السوداني”، نوفمبر 2025.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *