د.مهند عثمان التوم
dr.mohaned@alankabootmedia.com
في قلب كل دولة حديثة يكمن طموح نبيل لتحقيق فصل حاسم بين مؤسساتها الإدارية والقبيلة، لأن الإدارة الرشيدة فوق الانتماءات الضيقة تعمل بمنطق الكفاءة والعدالة للجميع، لكن في السودان تظل هذه الفرضية مثار جدل عميق وتطرح سؤالاً جوهري هل انفصال الإدارة عن القبيلة حقيقة راسخة أم مجرد أسطورة نسجتها الامال، بينما خيوط الواقع المعقدة تربط بينهما بإحكام؟
الدولة الحديثة يكون الولاء الأول والأخير للمواطنة، وتناط المهام الإدارية لموظفين مؤهلين بعيد عن الجهوية والاثنية، القبيلة فيه كيان يتبع للمجتمع لا يتغلغل في صلب القرار الإداري أو يُملي توجهاته، في السودان للأمانة والتاريخ تتكرر محاولات جريئة وأحياناً خجولة بتكريس القبيلة في الإدارة، أصبحت القبيلة فيه ليست مجرد تصنيف اجتماعي بل بنية حية وشبكة علاقات متداخلة مؤثرة في القرار السياسي، نعم قد يقول قائل قبل نشأة الدولة الحديثة كانت الإدارة الأهلية (القبائلية) العمود الفقري للحكم والتنظيم الاجتماعي، حقيقة لا يمكن القفز فوقها رغم محاولات تهميشها أو إلغائها في مراحل معينة إلا أن تأثيرها ظل كامن يعود للظهور بقوة كلما ضعفت قبضة الدولة المركزية.
لا تقتصر العلاقة المتشابكة بين الإدارة والقبيلة على الجانب التاريخي أو الاجتماعي بل تمتد خيوط هذا النسيج لتشمل الواقع السياسي فغالباً ما تجد الأحزاب السياسية نفسها مضطرة للتواصل مع قادة القبائل لكسب الدعم الانتخابي أو لتهدئة الأوضاع والتعيينات في المناصب الإدارية العليا وفي بعض الأحيان حتى الدنيا التي لا تخلو من حسابات التوازن القبلي أو الرضا الجهوي مما يجعل الكفاءة أحياناً في المرتبة الثانية، فالولاءات القبلية كثيراً ما تشكل كتلاً تصويتية مؤثرة وقوى ضغط سياسية لا يمكن تجاهلها، وفي مناطق واسعة من السودان خاصة تلك التي تعاني من ضعف الخدمات الحكومية والغياب الأمني تلعب القبائل دور محوري في تنظيم حياة الرعي والزراعة وفض النزاعات حول الأرض والمياه والمراعي، فهنا تتفوق الأعراف والتقاليد على القانون الوضعي وتصبح سلطة النظار والشرتاي والمكوك والعمد والمشايخ هي الإدارة الفعلية على الأرض وتتقاطع وتتصادم أحيانا مع سلطة الدولة الرسمية، وفي ظل هشاشة مفهوم المواطنة الشاملة وضعف مؤسسات الدولة القادرة على توفير الأمن والعدالة للجميع يجد الكثير من السودانيين في قبيلتهم الملاذ الأخير لتعزيز هويتهم وشعورهم بالانتماء وللحماية والدعم هذا الارتباط العضوي يجعل من المستحيل على الإدارة أن تعمل في فراغ منفصل عن هذه الحواضن الاجتماعية.
ونعود للسؤال هل انفصال الإدارة عن القبيلة في السودان أسطورة أم خيال؟ يبدو أنها أسطورة جميلة نطمح إليها لكن واقعها يظل خيالاً يصعب تحقيقه بالكامل في ظل الظروف الراهنة العلاقة فيه ليست انفصالاً بل تشابكاُ عميق ومعقد كشبكة العنكبوت التي تتداخل فيها الخيوط بقوة لتشكل بنية متكاملة، فالتحدي الكبير الذي يواجه السودان هو كيفية التعاطي مع هذه الحقيقة هل نستمر في تجاهل دور القبيلة أو محاولة القضاء عليه مما يؤدي إلى صراع مستمر وترك فراغات تملأها الفوضى؟ أم أن الأجدى هو الاعتراف بهذا الدور ومحاولة دمجه وتوجيهه ضمن إطار الدولة الحديثة، بحيث تصبح القبيلة رافد للاستقرار والتنمية لا مصدر للانقسام والنزاع؟
إن بناء دولة حديثة قوية في السودان يتطلب فهم عميق ودقيق لهذا التشابك لا يمكن لإدارة أن تنجح وهي تعمل بمعزل عن الواقع الاجتماعي المعقد الذي تعيشه، لربما لا يكمن الحل في انفصام مستحيل بل في تكامل واعي يوجه طاقات القبيلة نحو خدمة الصالح العام ويسمح لمؤسسات الدولة بالنمو والترسخ مستفيدة من الإرث الاجتماعي دون أن تقع في أسر الانتماءات الضيقة عندها فقط تبدأ خيوط أسطورة الانفصال في التفكك لتنسج شبكة أمل لوطن موحد وقوي.
